الأربعاء، 8 أكتوبر 2014

العلاقات الأسرية في القرآن الكريم


 

 

 

 

العِلاقَاتُ الأسَرِيَّةِ

في القُرآنِ الكَرِيمِ

 

 

 

 

 

 

 

تأليف

حسن عبد الشهيد

 

 

 

مقدمة الباحث

ندّعي نحن المسلمون أن القرآن الكريم كتابٌ لتنظيم الحياة ودستور لكل مسلم، فهل في هذه العبارة تكلفاً وكلاماً إنشائياً ؟! من خلال هذا البحث سوف نطرق أبواب هذا الكتاب الكريم سائلين عن تنظيمه للعلاقات الأسرية، وهل جعل لنا أطراً وأسساً نتبعها لنهتدي إلى ما يصبو إليه كل إنسان من الاستقرار الأسري وتقوية علاقاته مع هذا المحيط.

 

 

الهدف من البحث

نظراً لكون هذا البحث مُقدماً لمسابقة تهتم بالشأن القرآني فإن الهدف من البحث لا يكمن في عرض قضايا العلاقات الأسرية حسب الرؤية الإسلامية، وهو ما تزخر به مكتباتنا من مؤلفاتٍ ومصنفاتٍ قد أفادت كثيراً في هذا المجال،  بل يهدف البحث إلى إبراز كيفية تعرض القرآن الكريم لموضوع العلاقات الأسرية وكيفية تقويتها حسب المنظور القرآني، فربما يجد القارئ ندرة في الاستشهاد بالأحاديث الشريفة وقلة في عرض آراء علماء الاجتماع والمختصين بالشأن الأسري.

 

 

محاور البحث

تم تقسيم هذا البحث على عدة محاور :

·      مقدمة لمفاهيم لفظتي الأسرة والعلاقات وتطرق القرآن لهما

·      أهمية العلاقات الأسرية

·      أنواع العلاقات الأسرية: وفي كل منها تفصيل عن كيفية تأسيس القرآن لهذه العلاقة و ما يقوي هذه العلاقات، وتطرق القرآن لبعض المشاكل البارزة التي تطرأ على هذه العلاقة ونقدم أمثلة ضربها القرآن للناس من بيوت الامم السابقة

-        ( العلاقة بين الزوج والزوجة)

-       ( العلاقة بين الوالدين والأبناء)

-       (العلاقة بين الإخوان في النسب)

-        ( العلاقة بين الأقرباء في النسب)

·      وأخيراً العلاقات الأسرية في الآخرة من منظور القرآن الكريم.

مقدمة

ما هي الأسرة؟

الأسر (بضم الهمزة وتسكين السين وفتح الراء) في اللغة هي الدرع الحصينة (1) وفي الاصطلاح هي الجماعة الإنسانية التنظيمية المكلفة بواجب استقرار المجتمع وتطوره (2) ومن الواضح أن الكلمة تطلق على كل جماعة يربطها حقوق وواجبات كأن نقول أسرة القرآن وأسرة المقرئين وأسرة الأدباء، ولكن إذا أطلقت الكلمة من دون إضافة قصد بها هذه الوحدة الاجتماعية المكونة من الزوج والزوجة والأبناء والأحفاد.

_________________________

 

1. القاموس المحيط ص54

2. علم الاجتماع العائلي ص 43

ولفظة أسرة من الناحية اللغوية والاصطلاحية بها إشارة واضحة للعلاقات التي تربط وتنظم أفرادها.

من جهته لم يستخدم القرآن الكريم لفظة الأسرة ومشتقاتها بل نجد ما يرادفها من الكلمات:

 

1.   أهل

قوله تعالى: "إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ.." (1) وتدل كلمة أهله على زوجة موسى عليه السلام

 

وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .." (2) وتدل لفظة أهليكم على الزوجة والأبناء والأحفاد

وقوله تعالى: " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا .." (3) وتدل كلمة أهله وأهلها على مفهوم أوسع للقرابة من أسرة الزوج والزوجة

قوله تعالى: " قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" (4) وتدل كلمة أهلها على جماعة المدينة من رجال ونساء وابناء

2.   آل

قوله تعالى : "فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا .." (5) تدل لفظ آل على أسرة فرعون من زوجة وأبناء وقرابة نسب

 

3.   عشيرة

قوله تعالى : "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ .."(6) تدل كلمة عشيرتكم على قرابة النسب بشكل عام وبالامكان الإشارة إلى المعنى اللغوي "الدرع الحصينة"

 

4.   الرهط

قوله تعالى : ".. وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ "(7) تدل كلمة رهطك / رهطي على عشيرة النبي شعيب عليه السلام وقرابة النسب له بشكل عام.

 

 

 

________________________

 

1.سورة النمل –الآية7

2.سورة التحريم - الآية 6

3.سورة النساء - الآية 35

4.سورة الأعراف - الآية 123

5.سورة القصص – الآية 8

6.سورة التوبة - الآية 24

7.سورة هود – الآية 91 ، 92

 

ما هو مفهوم العلاقات؟

كلمة مشتقة من علق وهي في اللغة التشبث بالشئ (1) كما أطلقت على كتلة الدم المتعلق بجدار الرحم وهي قوله تعالى: "خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" (2) أما علاقة في الاصطلاح يُقال لكل "رابطة تربط بين شخصين أو شيئين" (3) وجمعها علاقات أو علائق.

 

وفي هذا البحث المتواضع نقصد بها حالة الرابطة بين الزوج والزوجة وبين الابن والوالدين وبين الأخوة وبين قرابة النسب بشكل عام. مثال: تتصف حالات بعض الأسر بعلاقات متفككة أو مترابطة بقوة وهكذا.

 

أهمية العلاقات الأسرية

 

تكمن أهمية العلاقات الأسرية في حفظ المجتمع ومكوناته من الضياع حيث تعتبر الأسرة المكون الأول لحفظ المجتمع فإن  ضعفت حالة العلاقة بين أفراد الأسرة أدى ذلك لتفككها وتفرق أفرادها ولجوءهم لعلاقات خارج الإطار الأسري مما يسبب حالة الفوضى في المجتمع، ففي قوتها وصلابة ترابطها قوة للمجتمع وفي ضعفها وتفككها ضعف للمجتمع.

 

من هذا المنطلق ركز القرآن الكريم على أهمية العلاقات الأسرية وجعل قوانين لحفظها وتقويتها. عشراتٌ من الآيات التي يقرأها المسلمون صباحاً ومساءً تحثهم على حفظ كيان الأسرة وتقوية روابطه بل ضرب القرآن أمثلة عديدة للعلاقات الأسرية سواء كانت داخل بيوت الأنبياء أو الأولياء أو حتى أعداء الله وسنتعرض لها من خلال هذا البحث المتواضع.

 

يقول الأستاذ السيد محيي الدين المشعل " قد وجدنا أن الطرح القرآني لقضايا الأسرة بكلا مستوييه، أعني مستوى التكوين والتأسيس، ومستوى معالجة المشاكل، هو الطرح الأكمل في جميع جهاته وذلك لأن القرآن يؤسس العلاقات الأسرية على أسس راسخة لا تتزلزل معها العلاقة الأسرية، إلا بتزلزل الأسس، وهو لا يحصل إلا إذا تنازل المؤمن بها عن العمل بها." (4)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

_________________________

 

1.مفردات الراغب ص 445

2. سورة العلق – الآية 2

3.معجم اللغة العربية المعاصرة مادة علق ج1 ، ص1538

4.الأسرة في القرآن ص18

 

أنواع العلاقات الأسرية

 

أولا ً:علاقة الزوج والزوجة

 

جعل الله الزواج سُنة كونية لكل الكائنات الحية، فعندما يذكر حالة الزوجية لا يفاضل بين أحد من الزوجين. فقد ذكر الزوجية في النبات بقوله تعالى"وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى"(1)

وفي الحيوان: " ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.."(2)

بل وحتى في الإنسان : "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى" (3)

فلم يذكر أفضلية لأحد الزوجين من ناحية الخِلقة، وذكرهم على حد سواء. أما "المراد من النفس الواحدة "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا.." (4)هو الواحد النوعي، أي أن الله خلقكم جميعاً من نوع واحد كما خلق أزواجكم من جنسكم أيضاً "(5)

 

أسس العلاقة بين الزوجين

 

جعل القرآن الكريم للعلاقة بين الزوج والزوجة أسساً تكوينية عامة، على كلا الزوجين أن يؤمن بها قبل الولوج بهذه العلاقة:

 

1.   الزواج نعمة عظيمة

وصف القرآن الكريم الزواج بأنه آية من آيات الله ونعمة من نعمه على الإنسان أن يشكرها عملياً عن طريق التزاوج، قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(6) يقول السيد الطباطبائي (ره) "لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة و الأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي و المودة و الرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع و استكمال الإنسان في حياتيه الدنيا و الأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم و تدهش به أحلامهم."(7)

 

وجاء القرآن مؤكداً على عدم إهمال هذه النعمة بقوله (لآيات لقوم يتفكرون) يقول الشيخ مكارم الشيرازي " والحقّ أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص للناس التي تعتبر أساس الإطمئنان في الحياة، هو أحد مواهب الله العظيمة. وهذا السكن أو الإطمئنان ينشأ من أن هذين الجنسين يكمل بعضهما بعضاً، وكل منهما أساس النشاط والنماء لصاحبه، بحيث يعد كل منهما ناقصاً بغير صاحبه، فمن الطبيعي أن تكون بين الزوجين مثل هذه الجاذبيّة القوية. ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنة الإلهية وجودهم ناقص، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة."(8)

______________________

1. سورة طه – الآية 53

2.سورة الأنعام - الآية 143

3. سورة النجم - الآية 45

4. سورة الأعراف – الآية 189

5.انظر تفسير الميزان ذيل الآية 189 من سورة الأعراف

6. سورة الروم – الآية 21

7.تفسير الميزان ذيل الآية 21 من سورة الروم

8.تفسير الأمثل ذيل الآية 21 من سورة الروم

كما أنه واجه الداعين إلى عدم الزواج عندما أقسم بعض الصحابة ألا يقربوا أو يتزوجوا النساء فنزلت الآيات من سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.." (1)(2)

 

2.   تعظيم مكانة المرأة داخل كيان الأسرة

نزل القرآن الكريم في بيئة ظلمت المرأة بشكل عام وهُضمت حقوقها بين الأديان القائمة آنذك فقد وصف الله المرأة بعدة أوصاف أعطتها مكانة اجتماعية عظيمة منها (اللباس) ".. هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ .." (3) يقول الشيخ مكارم الشيرازي في تفسير لفظ لباس: " واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر عيوب الجسم من جهة اُخرى، أضف إلى أنه زينة للإِنسان، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب. الزوجان يحفظ كل منهما الآخر من الإِنحراف والعيوب، ويوفّر كل منهما سبل الراحة والطمأنينة للآخر، وكل منهما زينة للآخر. هذا التعبير يوضّح غاية الإِرتباط المعنوي بين الرجل والمرأة ومساواتهما في هذا المجال، فالتعبير جاء للرجل كما جاء للمرأة بدون تغيير."(4)

كما نبه القرآن الكريم الرجل أن لا يتعامل مع المرأة على أساس أنها أداة لقضاء الشهوة والاستمتاع ففي قوله تعالى: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ .."(5) وصف فيها المرأة بالحرث، يقول المفسر الشيخ مكارم الشيرازي أن "لو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري." (6)

 

3.   العدل في الحقوق والواجبات بين الزوج والزوجة

وقد جعلت الشريعة الإسلامية حقوقاً للمرأة كما للرجل حقوقاً من دون تحيّز وقد أشار القرآن الكريم لهذا المعنى في قوله تعالى: ".. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.." (7) يقول الشيخ مكارم الشيرازي أن الآية  "قرّرت مجموعة من الحقوق المتبادلة بين الرّجال والنساء فتقول: كما أنّ للرّجال حقوقاً على النساء، فكذلك للنساء حقوق على الرّجال أيضاً، فيجب عليهم مراعاتها، لأنّ الإسلام اهتمّ بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة ولم يتحيّز إلى أحد الطّرفين."(8)

 

4.   السكن (الاطمئنان النفسي)

من الأمور التكوينية التي جعلها الله في الإنسان هو الميلان إلى الاطمئنان النفسي من خلال الركون إلى الزوج/الزوجة وهو قوله تعالى:"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا .."(9) وقد جعل الله هذا الاطمئنان هو الغاية من هذا الزواج يقول الشيخ الشيرازي"هي السكينة الروحية والهدوء النفسي وحيث أن استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة، وبين جميع الناس عامة، والحقّ أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص للناس التي تعتبر أساس الإطمئنان في الحياة،

_________________________

1.سورة المائدة – الآيات 87

2.انظر تفسير مجمع البيان للطبرسي والتفسير الكبير للفخر الرازي في ذيل الآية 89 من سورة المائدة

3.سورة البقرة - الآية 187

4. تفسير الأمثل في ذيل الآية البقرة 187

5. سورة البقرة – الآية 223

6. تفسير الأمثل ذيل الآية البقرة 223

7. سورة البقرة - الآية 228

8. تفسير الأمثل ذيل الآية البقرة 228

9. سورة الروم – الآية 21

هو أحد مواهب الله العظيمة.وهذا السكن أو الإطمئنان ينشأ من أن هذين الجنسين يكمل بعضهما بعضاً، وكل منهما أساس النشاط والنماء لصاحبه، بحيث يعد كل منهما  ناقصاً بغير صاحبه، فمن الطبيعي أن تكون بين الزوجين مثل هذه الجاذبيّة القوية." (1)

 

5.   المودة والرحمة

مما جعله الله في قلوب الأزواج هي المودة والرحمة يقول الله سبحانه: ".. وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" يعبر الشيخ حبيب الكاظمي بتعبير رائع لهذين الصفتين فيقول" إن المودة والرحمة بحسب الظاهر لفظتان قريبتان في المعنى، ولكنهما في الحقيقة متفاوتتان.. فإن الرحمة -والله العالم- حالة أرقى من حالة المودة، إذ أن فيها نفسا إنسانيا، وفيها نفسا تجريديا.. قد تكون المودة مبتنية على بعض المصالح الغريزية وما شابه ذلك، ولكن الرحمة حالة إنسانية راقية.. إن الحياة الزوجية تقوم على أساس المودة، التي تأتي من روافد عديدة، منها: الغريزة، وطلب النسل، والاستقرار في الحياة، وتدبير الأمور المعيشية اليومية؛ ولكن الرحمة تبقى لا تتأثر بالعوامل اليومية.. والدليل على أن هذه الرحمة حالة إنسانية راقية، هو أنها تنقدح في نفس الإنسان حتى تجاه الحيوانات.. ونحن نجل حتى الكافر الذي يرق على الحيوان، فهذه حركة إنسانية، ومن المعلوم أن الله عزوجل قد يثيبه بنوع من الثواب، ولو تخفيفاً للعقاب مثلاً، أو تعجيلاً لبعض المثوبات في الحياة الدنيا.. ولكن هذه الحالة من الشفقة والرحمة، إذا وجدت بالإضافة إلى المودة، وبالإضافة إلى الجهات الغريزية، والحاجة اليومية؛ فإن هذا المعجون بمثابة الصلب أو البناء المحكم الذي لا يمكن أن ينهدم مع تقادم الأيام.(2)

 

 

ما يقوي العلاقة الأسرية بين الزوج والزوجة

 

أتبع القرآن الكريم الأسس التكوينية سالفة الذكر بمجموعة من المبادئ التي تقوم عليها العلاقة بين الزوج والزوجة فإن طبقت هذه المبادئ قويت علاقة الأزواج وفي حال إهمال هذه المبادئ فإن العلاقة الأسرية بين الزوج والزوجة تكون عرضة للشرخ والتفكك:

 

1.   العفة

يأمرنا القرآن الكريم بتكوين العلاقات الأسرية وتقويتها على أساس العفة وتنقسم أوامره:

 

أ‌.      الزواج من العفيفات

ذكر الله سبحانه أن المؤمنين والمؤمنات لا يتزوجون من الزاني أو الزانية في قوله تعالى:" الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"(3)(4)

ولا شك بأن مضار السفاح والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج واضحة في يومنا هذا حتى على المجتمعات التي لا تتخذ من المبادئ شيئاً، فالزنا يؤدي إلى ضياع النسب والتفرق بين الزوجين في حال الخيانة بل تعاني بعض المجتمعات من نشوء جيل لا يعرف أبويه !!

 

________________________

1. تفسير الأمثل ذيل الآية21 من سورة الروم

2.مقال الشيخ حبيب الكاظمي بعنوان مقدمة حول قدسية العش الزوجي على موقع السراج الإلكتروني http://www.alseraj.net/31/pages_txt_01.htm

3. سورة النور – الآية 3

4.للفقهاء آراء في حكم الزواج من الزاني أو الزانية ذهب بعضهم إلى حرمته استدلالاً بهذه الآية ويُرجَع البحث الفقهي إلى محله في الرسائل العملية

ب‌.  عدم اتخاذ الأخدان

لم يكتفِ القرآن بدعوة المؤمنين لتجنب الزواج من الزاني أو الزانية بل أن لا يتخذون الأخدان (1) في قوله تعالى:"  فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ.." (2)

 

ج. غض البصر

النظر إلى المحرمات هو مما يستثير شهوة الإنسان فيصرف بنظره عن زوجه/ زوجته فجاءت الآيات الكريمة من سورة الأحزاب: " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ .. " (3) لتضع حكماً شرعياً بوجوب غض البصر عن كل ما يثير شهوة الإنسان خارج إطار الزواج، حفظاً لهذه الزيجة المباركة.

 

د. الستر

أوجب الله الستر على المرأة حفاظاً عليها وعلى كيانات الأسرة في المجتمع، وحصر كشف الستر على فئات المحارم يقول الله عز من قائل: " وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ.."(4)

 

2.   حسن المعاشرة وقبول الآخر

 

قوله تعالى في سورة النساء:" ..وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.."(5) "عاشروهن بالمعاشرة الحسنة، وهذا هو الشيء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية، أي عاشروهن بالعشرة الإِنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثمّ عقب على ذلك بقوله: "فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" فحتى إِذا لم تكونوا على رضا كامل من الزوجات، وكرهتموهنّ لبعض الأسباب فلا تبادروا إِلى الإِنفصال عنهن والطلاق، بل عليكم بمداراتهنّ ما استطعتم، إِذ يجوز أن تكونوا قد وقعتم في شأنهنّ في الخطأ وأن يكون الله قد جعل فيما كرهتموه خيراً كثيراً، ولهذا ينبغي أن لا تتركوا معاشرتهنّ بالمعروف والمعاشرة الحسنة ما لم يبلغ السيل الزبى، ولم تصل الأُمور إِلى الحدّ الذي لا يطاق"(6) فمن المهم جداً أن يقبل الزوجين ببعضهما ويدعو القرآن إلى عدم الالتفات إلى ما يعكر هذا القبول من قضايا هامشية، فينهى القرآن على سبيل المثال عن جعل الحالة المادية سبباً للفرقة وعدم الارتباط يقول الله سبحانه:".. إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ"(7)

 

_________________________

1. الأخدان جمع خدن وهو المصاحب، واكثر ما يستعمل فيمن يصاحب شهوة: انظر مفردات الراغب ص 191

2.سورة النساء - الآية 25

3.سورة النور – الآية 30

4. سورة النور – الآية 31

5.سورة النساء – الآية 19

6.تفسير الأمثل ذيل الآية 19 من سورة النساء

7.سورة النور – الآية 32

3.   الشعور بالمسئولية

 

لا تستقيم العلاقات الزوجية بشكل خاص والعلاقات الأسرية بشكل عام دون إحساس جميع أفراد الأسرة بالمسئولية تجاه الآخرين في هذا الكيان يقول الله سبحانه :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا "(1)  ويذيل صاحب الأمثل تفسيره لهذه الآية بقوله" تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والاُسرة بشكل عامّ، وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الإستسلام للشهوات والأهواء، وحفظ العائلة من الإنحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كلّ رذيلة ونقص. وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الاُولى لبناء العائلة، ويراعى ويلاحظ بدقّة حتّى النهاية. وبعبارة اُخرى: إنّ حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن والمأكل، بل الأهمّ تربية نفوسهم وتغذيتها بالاُصول والتعاليم الإسلامية وتنشئتها نشأة تربوية صحيحة. والتعبير بـ "قوا" إشارة إلى أنّ ترك الأطفال والزوجات دون أيّة متابعة أو إرشاد سيؤدّي إلى هلاكهم ودخولهم .(2)

 

4.   الأمانة (عدم إفشاء أسرار الزوجية)

 

اعتبر القرآن الكريم أن إفشاء الأسرار من بيت الزوجية من أعظم الذنوب حيث أورد حادثة زوجتي النبي محمد (ص) اللتان أفشين سره في سورة التحريم وكذلك زوجتي النبي نوح (ع) والنبي لوط (ع) ووصف فعلهما بالخيانة بقوله (فخانتاهما) وجعل هذه الحوادث موعظة للمؤمنين والمؤمنات، وقد أورد الشيخ مكارم الشيرازي بحثاً عن إفشاء الأسرار في تفسير الأمثل في ذيل الآية الخامسة من سورة التحريم.(3)

 

5.   إظهار المودة والرحمة

 

إن جعل الله للمودة والرحمة في قلوب الأزواج من آياته، دلالة على أن لكلا الزوجين أن يقويا علاقة بعضهما عن طريق إظهار هذه المحبة والرحمة، ولهاتين الصفتين وجوه عديدة من قبيل الابتسامة وذكر كلمة الحب والشفقة على بعضهما والعطف وغيره، يقول الشيخ الطبرسي في هذا الشأن "جعل سبحانه بينهما المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر"(4)

 

6.   الإلتزام بمجموع الأحكام والتشريعات الفقهية التي قررها الإسلام وذكرها القرآن

 

إن الرسائل العملية للمراجع العظام كفيلة بتحديد الأحكام الشرعية لكلا الرجل والمرأة ونحن نكتفي في هذا البحث على ما ذكره القرآن الكريم من تشريعات:

أ‌.             وجوب إعطاء الصداق (المهر) للزوجة: " وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً " (5)

_______________________

1.سورة التحريم - الآية 6 

2.تفسير الأمثل ذيل الآية 6 من سورة التحريم

3. انظر تفسير الأمثل الآية ذيل الآية 5 من سورة التحريم

4.تفسير مجمع البيان ذيل الآية 21 من سورة الروم

5.سورة النساء - الآية 4

 

ب‌.         وجوب توفير المسكن الملائم للزوجة:" أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ"(1)

ت‌.         وجوب النفقة على الزوج للزوجة:" لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ .. " (2)

ث‌.         المقاربة الزوجية والاعتزال أثناء الحيض:"قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ .." (3)

ج‌.         جواز تعدد الزواج بالنسبة للرجل : " فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ.."(4)

ح‌.         قيمومة الرجل على المرأة:" الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء .." (5)

خ‌.         حرمة الزواج ببعض القرابات: "وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء.."(6)

وبهذا تكون هذه المبادئ والتشريعات ضامنة لتقوية أواصر العلاقات بين الزوج والزوجة

 

مواجهة ضعف العلاقات الزوجية

 

لما كانت العلاقات الزوجية عرضة للضعف والتفكك من طبيعتها، لم يهمل القرآن الكريم وضع الحلول المناسبة لإعادة القوة لهذه العلاقات :

أ‌.      حالة النشوز

نشوز الزوج:"وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا.."(7)

نشوز المرأة: " وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ" (8)

ب‌.  الشقاق

تقول الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا" (9) الشقاق وهي مشتقة من شقق تعني الخلاف والمخالفة(10)  ويبدو أن حالة الشقاق هي المرحلة الخطيرة من الخلاف بين الزوجين ولكن القرآن قد وضع لهذه المرحلة، يقول الأستاذ مظاهري : "ينبغي أن تلزم الاختلافات والنزاعات حدود البيت قدر الإمكان، وإذا وصل الأمر إلى حد لا يمكن معه كتمان الخلافات وجب على الزوجين أن يعملا على طبق ما جاء في القرآن المجيد التحكيم، عندما يصل الحال إلى هذه المرحلة، حينذاك يجب أن يجلس الطرفان وتطرح المسألة على بساط البحث في وجود حكمين من كلا الطرفين لوضع نهاية يخرج معها الجميع بالصلح والصفاء. إذن، فقط يكون طرح الاختلافات والنزاعات خارج محيط المنزل في المراحل التي يحتمل فيها أن تصل إلى تفتيت أركان الأسرة وهدم نظامها، يتطرق الطرفان إلى قضية الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله." (11)

وإن كانت الخلافات قد وصلت إلى حد الطلاق فإن القرآن لم يجعل الأمر بهذه البساطة فقد جعل تشريعات تعقيداً لأمر الطلاق (12)

_________________________

1.سورة الطلاق - الآية 6

2. سورة الطلاق - الآية7

3.سورة البقرة – الآية 222

4. سورة النساء- الآية 3

5.سورة النساء - الآية34

6.سورة النساء - الآية 22

7.سورة النساء - الآية 128

8.سورة النساء - الآية 34

9.سورة النساء- الآية35

10. مفردات الراغب 264

11. من كتاب الأسرة في الإسلام مظاهري)

12.راجع آيات أحكام الطلاق: سورة البقرة آية227 حتى 241 ، سورة الطلاق آية 1

ثانيا ً : علاقة الوالدين بالأبناء

 

أولى القرآن الكريم لعلاقة الوالدين بالأبناء أهمية خاصة من حيث انتقاء ألفاظ الآيات المتعلقة بها وموقعها من السياق، وشجع على تقويتها مستخدما الأسلوب العاطفي في ذلك.

 

علاقة فطرية

 

من الواضح أن العلاقة بين الأبناء والآباء منشؤها فطري حيث يتعلق الولد/البنت بوالديه منذ ولادته وكذلك تعلق الوالدين بولدهما، وفي ذلك يقول الله مؤكداً على هذه العلاقة : "وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ .."(1) وعن تعلق الأبناء بوالديهم يقول الله سبحانه وتعالى:" قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم" (2)

فانظر كيف قدم الآباء على كل عناصر العلاقات الأسرية من الأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال وغيرها.

 

لكن القرآن لم يغفل تعرض هذه العلاقة للانحراف عن فطرتها، فقدم أوامره ونواهيه للأبناء في المقام الأول مغلظاً هذا التوجيه –حيث جاءت متشابهة من حيث التعبير بـ(وبالوالدين إحساناً) في سبع مواضع وفي ذلك تغليظ منه سبحانه وتشديداً على الوصية بالوالدين وحفظ هذا الرابط فتأمل (3) وأيضاً وجه الآباء لتقوية هذا الرابط مع أبنائهم من خلال آيات عدة نصنفها على أساس مقومات العلاقة من جهة الأبناء ومن جهة الآباء:

 

ما يقوي علاقة الوالدين بأبنائهم ويحافظ عليها

 

·      من جهة الولد:

1.   تقدير دورهما

من خلال ذكر الآيات لحال الإنسان في صغره: "وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"(4)فهي تذكره بأهمية تقدير هذا الدور، وصعوبته كيف كانت أمه تحمله على ضعف: " وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ" (5)

فقد استخدم الأسلوب العاطفي للمحافظة على علاقة الابن بوالديه فيتذكر الابن حين تصيب هذه العلاقة فتوراً كيف قاما بتربيته صغيراً وحمل أمه له على رغم ضعفها.

 

 

 

_________________________

1.سورة الأنفال - الآية 28

 2.سورة التوبة - الآية24

3.البقرة 83 و النساء 36 والأنعام 151 الإسراء 23 والعنكبوت 8 ولقمان 14 و الأحقاف 15

 4. سورة الإسراء - الآية 22

 5. سورة لقمان - الآية 14

 

 

 

2.   برهما (الإحسان لهما)

تقول الآية:" وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " (1) كلمة "قضاء" لها مفهوم توكيدي أكثر مِن كلمة "أمر" وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. (2)

ويقول السيد الطباطبائي تعظيماً لشأن الإحسان للوالدين وبرهما: "يدل ذلك على أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم، فإن المجتمع الإنساني الذي لا يتم للإنسان دونه حياة و لا دين هو أمر وضعي اعتباري لا يحفظه في حدوثه و بقائه إلا حب النسل الذي يتكىء على رابطة الرحمة المتكونة في البيت القائمة بالوالدين من جانب و بالأولاد من جانب آخر، و جفاء الأولاد للوالدين و عقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم و رجائهما منهم و انتشار ذلك بين النوع يؤدي بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد والتربية،ويدعو ذلك من جهة إلى ترك التناسل و انقطاع النسل، و من جهة إلى كراهية تأسيس البيت و التكاهل في تشكيل المجتمع الصغير، و الاستنكاف عن حفظ سمة الأبوة و الأمومة، و ينجر إلى تكون طبقة من الذرية الإنسانية لا قرابة بينهم و لا أثر من رابطة الرحم فيهم، و يتلاشى عندئذ أجزاء المجتمع، و يتشتت شملهم، و يتفرق جمعهم، و يفسد أمرهم فسادا لا يصلحه قانون جار و لا سنة دائرة.(3)

 

3.   تقديمهما في أي خير

 يأمرنا الإسلام بتقديم الوالدين في حال الإنفاق بالخير، قال تعالى :" يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.."(4) فقدم الوالدين على كل الفئات.

 

4.   التواضع والخضوع لهما

يقول الله تعالى: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ " (5) يقول السيد الطباطبائي "خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولا و فعلا" (6) وعن الامام الصادق (ع) عندما سئل عن هذه الآية: "لا تملاَ عينيك من النّظر اليهما إلاّ برحمة ورقّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدَّم قدّامهما" (7)

 

5.   القول الكريم لهما

يقول الله عز وجل: "وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا" (8) من جملة الأوامر التي فرضها الله هو القول الكريم للوالدين أي لا يكفي أن تكون باراً بهما بصمت بل تتبع ذلك بالقول الكريم وهو ما يفيد إدخال السرور على قلبيهما.

 

6.   عدم الاعتراض عليهما أو نهرهما

قال الله عز وجل: "إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا" (9) فعن

_________________________

 

1.سورة الإسراء - الآية 22

2. تناول تفسير الأمثل بحوثاُ عديدة في ذيل هذه الآية من سورة الإسراء فيرجى المراجعة

3.تفسير الميزان ذيل الآية 151 سورة الأنعام

4.سورة البقرة، الآية 215

5.سورة الإسراء الآية 24

6. تفسير الميزان ذيل الآية 24 من سورة الإسراء

7.تفسير البرهان ج4، ص547

8.سورة الإسراء – الآية 23

9.سورة الإسراء – الآية 23

الإمام الصادق (ع): «أدنى العقوق (أُفٌّ) ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه» (1) و النهر هو الزجر عن الشئ بالإغلاظ في القول.(2)

 

7.   الشكر لهما

قال تعالى: " أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" (3)

 

8.    الدعاء لهما

قال تعالى: "وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (4)

وقال تعالى" رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ .."(5)

 

·      من جهة الوالدين

1.   قبول الجنسين ذكراً أم أنثى

حارب القرآن التقليد المتبع في ذلك الزمان عندما كانوا يخجلون من البنات فيقومون بقتلهم ووأدهم، وقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة بالتفصيل منزلاً أشد العبارات على فاعلها وهي قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ" (6)

 

2.   الرعاية بالأولاد

أ‌.      الرضاعة

قال تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " (7)

ب‌. النفقة

وتكمل الآية" وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف" أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة (8)

ج‌.   عدم القتل من الإملاق

مما حاربه القرآن من عادات جاهلية قتل الأولاد حين الفاقة والفقر، وقد أورد القرآن هذه العادة ناهياً أصحابها عن فعلها: "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا"(9) وهذه العادة تستمر ليومنا هذا بشكل مختلف، يقول الشيخ مكارم الشيرازي :" هذا العمل الجاهلي - وللأسف البالغ -يتكّرر الآن في عصرنا في صورة أُخرى، إِذ نلاحظ كيف

_________________________

1. تفسير البرهان ج4، ص547

2. 2.مفردات الراغب ص 507

3.سورة لقمان – الآية13

4.سورة الإسراء – الآية24

5.سورة نوح الآية28

6.سورة النحل – الآية 58و59

7.سورة البقرة – الآية 233

8. تفسير القرطبي جزء 18 ص 170

9.  سورة الأسراء – الآية 31

يعمد الناس إِلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنّة عن طريق "الكورتاج" والإِجهاض بحجة النقصان الإِحتمالي في المواد الغذائية. إِنّ إِسقاط الجنين وإِن كان يُبَرَّرُ الآن بأدلة وحجج أُخرى أيضاً، إِلاّ أنَّ مسألة الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية،هي من أدلتها الأصليّة. هذه المسألة والمسائل المشابهة الأُخرى تشير إِلى أنّ العَهد الجاهلي يتكّرر في شكل آخر، وأنّ "جاهلية القرن العشرين" أكثر وحشية من جاهلية ما قبل الإِسلام."(1)

 

3.   التربية

مما لا شك فيه أن التربية الصالحة المنجية للولد/البنت هي مما يزيد من قوة العلاقات الأسرية فكلما أحسن الوالدان تربية أبنائهما أدى ذلك إلا بر الأبناء بالوالدين ، عن النبي (ص) : لعن الله والدين حملا ولدهما علىّ عقوقهم. (2) ويقول الله سبحانه وتعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .." (3)  ويضرب لنا القرآن كيف اهتم النبي نوح (ع) بنجاة ابنه حتى اللحظة الأخيرة عندما كان يدعوه " وَنَادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِل يَبُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا.." (4) يعقب الشيخ مارم الشيرازي على هذه الآية بأن "لم يكن نوح هذا النّبي العظيم أباً فحسب، بل كان مربيّاً لا يعرف التعب والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه عسى أن يستجيب له، ولكن - للأسف - كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرّق عليه." (5)

وننظر كيف يربي لقمان الحكيم ابنه على الأخلاق في قوله من سورة لقمان "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ،وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ.."(6)

 

4.   الحوار بين أفراد الأسرة

يستعرض القرآن نماذج للحوار بين أفراد الأسرة، ويدخل هذا الحوار في إطار تقوية العلاقات الأسرية، فإن للحوار دوراً بارزاً في إظهار آراء كل طرف ومعرفة الآخرين برأي بعضهم، وقد صنف الأستاذ السيد محيي الدين المشعل الحوارات بين أفراد الأسرة بشكل عام في كتابه (الأسرة في القرآن) فجعل عنوان الحوار بين النبي يعقوب وابنه يوسف (ع) في بداية سورة يوسف(7) (حوار الثقة والنصيحة والبشارة)(8) ، كما وصف حوار النبي يعقوب عندنا حضرته الوفاة بـ(حوار المبادئ). (9) وهي مما لا شك فيه تقوي أواصر العلاقات الأسرية.

 

5.   الدعاء لهم

يعلمّ القرآن الكريم الوالدين كيفية الدعاء للأولاد فهو مما يحفظ بقاءهم ويهديهم ويقوي علاقاتهم الأسرية، يقول الله سبحانه:" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ  " (10)

________________________

1.تفسير الامثل في ذيل الآية 151 من سورة الأنعام

2. كتاب مكارم الأخلاق ص 432

3.وبحث صاحب الأمثل في ذيل الآية 6 من سورة التحريم كيفية المسئولية تجاه الأبناء

4.سورة هود – الآية 42

5. تفسير الأمثل في ذيل الآية 42 من سورة هود

6.سورة لقمان – الآيات17و18و19

7.سورة يوسف من الآية 4 حتى 7

8.الأسرة في القرآن ص 169

9.المصدر نفسه ص171

10.سورة الفرقان – الآية 74

 

6.   القدوة

إن من أهم ما يجعل الإنسان يرتبط بوالديه كونهما قدوة له ويشير القرآن إلى هذه الحقيقة فإن كانا كافرين تعلق بهما كما قوله تعالى"  قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ" (1) ويعلمنا كيف نكون قدوة للمتقين في قوله تعالى"وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا" (2)

 

مواجهة ضعف العلاقات الأسرية بين الوالدين والأبناء

 

على العكس من العلاقة الزوجية القابلة للتفرق فإن القرآن الكريم يمنع حالة الفرقة مطلقاً بين الابن والوالدين، فنستفيد من قوله تعالى :" وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا " (3) أن مهما وصلت حالة الاختلاف بين الوالدين والأبناء –وهنا المثال بالشرك والإيمان- فلا ينبغي قطعها بل ويوصي بـ(صاحبهما في الدنيا معروفا). ونستفيد من هذه الآية ضرورة جعل أحكام الدين مرجعاً لكل الخلافات التي تطرأ على العلاقة بين الوالدين وأبنائهم

 

ثالثا ً : علاقة الإخوان بعضهم ببعض

 

الأخ في اللغو هو المشارك(4)، فيقال للأولاد أخوين لأنهما اشتركا في أم أو أب واحد، من جهته أراد القرآن للمؤمنين أن يكونوا كالإخوة " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  " (5)لما لهذه العلاقة من قوة في اللجوء لها عند الشدائد وهذا ما أشار إليه تقديمُ الأخ على بقية عناصر أفراد العائلة في قوله تعالى "يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ" (6) حيث أول من يلجأ له المرء هو الأخ عند الشدائد.

 

ما يقوي علاقة الإخوان في النسب

مما يقوي علاقة الإخوان في النسب هو دور كل واحد منهما في نصرة أخيه وإغاثته عند حاجته ويضرب القرآن الكريم طلب النبي موسى (ع) من الله ان يشد عضده بأخيه هارون (ع) بقوله: "وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي" (7)

 

مواجهة ضعف العلاقات الأسرية بين الإخوان في النسب

 

لو نظرنا إلى المحاكم وما فيها من قضايا بين الإخوان في النسب لوجدنا قضايا الإرث والقضايا المالية هي الأكثر لذا جعل القرآن تشريعات لمواجهة هذه المشكلة فقسم الإرث بين الإخوان وهذا ما نقرأه في سورة النساء من تفصيل عن موضوع الإرث الآيات 7و11و12و176  

ومن المشاكل التي تطرأ على علاقة الإخوان في النسب وتضعفها هو الحسد فقد أورد القرآن قصتي إخوة يوسف –انظر سورة يوسف- وأبناء آدم –انظر سورة الأعراف الآيات 189و190-وكيف كان الحسد مفرقاً لهم ويمكننا أن نستفيد من هاتين القصتين على تربية نفوسنا من خُلق الحسد المذموم.

1.سورة البقرة – الآية 170

2.سورة الفرقان – الآية 74

 3.سورة لقمان الآية 15

 4.مفردات الراغب ص13

 5.سورة الحجرات – الآية 10

6. سورة عبس الآيات 34و35و36

 7.سورة طه – الآيات 29 حتى 33

رابعا ً : علاقة النسب بشكل عام

 

نلاحظ ميلان الإنسان بطبيعته إلى العلاقة مع أقربائه من النسب، ويهمه من أمورهم ما يهمهم ويعاجل إلى تفقد أحوالهم، وصف هذه الحالة في سورة الأنفال"..  وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ..(1) ونجده قد قص علينا الحوار بين السيدة مريم (ع) وخالها –حسب بعض الآراء- نبي الله زكريا (ع) عندما تفقد أحوالها في دار العبادة :" كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ" (2) وحذر الله من يقطعون أرحامهم وقرن هؤلاء بالمفسدين في الأرض" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ" (3)

 

ما يقوي العلاقة بين الأقرباء في النسب

على الإنسان أن يكون دائم الوصل بينه وبين أقربائه فقد أثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه على من يوصل الرحم ووصفهم بأولي الألباب بقوله تعالى"وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ"(4)وذم من يقطعونه ووصفهم بالخاسرين" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"(5) ومع التطور التكنولوجي يمكن للمرء أن يصل رحمه دون عناء، ويذكر القرآن الكريم خاصية أخرى مما يقوي العلاقة الأسرية بالأقرباء وهي إسداء الخير لهم قبل غيرهم قال تعالى:" يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.." ومما يقوي العلاقة أيضا الانفتاح بالأكل المتبادل من بيوت الأقارب، قال تعالى:"..أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ" (6في هذا الباب يقول الأستاذ السيد محي الدين المشعل: "تدل هذه الآية على تخفيف الكلفة بين الأقارب بأكل كل منهم من بيت أخيه أو عمه أو أي قريب من قراباته الآخرين، لأن الأكل يوجب نحواً من التقارب" (7)

 

مواجهة ضعف العلاقات الأسرية بين الأقرباء في النسب

 

تصيب العلاقة الأسرية بين الأقرباء في النسب المشاكل كأي علاقة ولكننا نقرأ الإرشاد القرآني في مجموعة من الآيات "دعوة واضحة للتوازن في التعامل مع الأطراف المختلفة من أفراد الأسرة الواسعة، بما يشمله لفظ ذوي القربى، وأساس التوازن أو التعامل بشكل عام هو أن لا تقدم العلاقات عل حق الله تعالى، وأوامره ونواهيه، كما تؤكد بعض الآيات على عدم الإجحاف في التعامل مع ذوي القربى إذا كان هناك ما يؤدي إلى نوع من الفتور في العلاقة والتشنج فيها" (8)

 

 

 

_______________________

1.سورة الأنفال – الآية 75

2.سورة آل عمران – الآية31

3.سورة محمد – الآية 22

4.سورة الرعد – الآية 21

5.سورة البقرة الآية 27

6.سورةالنور – الآية61

7.الأسرة في القرآن ص143

8.الأسرة في القرآن ص 147

 

العلاقات الأسرية في الآخرة

رغم تأسيس القرآن لأصلٍ وهو تفرق النسب يوم القيامة " فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ"(1) إلا أن لهذا الأصل استثناءات تطرحها العديد من الآيات الأخرى في شأن من أصلح أسرته وتبعته ذريته بإيمان فحينئذٍ لا تتفرق علاقتهم بل ويجزيهم الله ثواباً بالمحافظة عليها "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ"(2)وقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ"(3) يقول الأستاذ السيد محي الدين المشعل: "إن الأسرة كلما كانت بالمستوى الأرقى من حيث الغيمان، والتدين والارتباط بالله، كان هذا هو العامل الذي يجمع بين أفرادها في الجنة بأحسن اجتماع"(4)

 

نتيجة البحث

 

يتبين لنا جليّا تعرض القرآن الكريم لموضوع العلاقات الأسرية بشكل واسع وأن له مراداً في هذا التعرض ألا وهو حفظ مكون الأسرة والذي يؤدي بدوره إلى الحفاظ على المجتمع، ومن خلال تتبع الآيات نجد أن من أعظم الواجبات على الإنسان المؤمن أن يحافظ على العلاقات الأسرية في محيطه من التفكك ويقويها بالعناصر التي ذكرها القرآن الكريم، إن علاقة النسب في الآخرة منقطعة بشكل عام لكن بإمكان الإنسان المحافظة عليها عن طريق الاتباع الصالح.

 

 

 

 

 

 

 
 

 

 

 

 

_____________________

1.سورة المؤمنون – الآية 101

2.سورة الرعد – الآية 23

3.سورة الطور – الآية 21

4.الأسرة في القرآن ص211

 

 

فهرس المصادر

 

1.    القرآن الكريم

 

2.    الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل – الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

      مدرسة الامام علي ع – قم إيران 1426 هـ

 

3.    الميزان في تفسير القرآن – العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت لبنان 1997م

 

4.    البرهان في تفسير القرآن – العلامة المحدث السيد هاشم البحراني

 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت لبنان 2006م

 

5.    مجمع البيان في تفسير القرآن – الشيخ  الفضل بن الحسن الطبرسي

 دار العلوم للتحقيق والطباعة – بيروت لبنان 2005م

 

6.    الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان (المعروف بتفسير القرطبي) – محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي – دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1988م

 

7.    التفسير الكبير – فخر الدين الرازي

المطبعة البهية المصرية – القاهرة مصر 1999م

 

8.    الأسرة في القرآن – السيد محيي الدين المشعل

 مركز العترة التخصصي القرآني للدراسات (معتقد) 2004م

 

9.    المفردات في غريب القرآن – أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني

 مكتبة نزار مصطفى الباز – القاهرة مصر 2009م

 

10.الأسرة في الإسلام – الأستاذ مظاهري

 دار البلاغة – بيروت لبنان 1993م

 

11.معجم اللغة العربية المعاصرة – الدكتور أحمد مختار عمر

 عالم الكتب – القاهرة 2008م

 

12.القاموس المحيط ، والقابوس الوسيط ، الجامع لما ذهب من كلام العرب شماميط – مجدالدين الفيروزآبادي – مؤسسة الرسالة - بيروت  لبنان 2005م

 

13.                   مكارم الأخلاق – الشيخ ري الدين الحسن بن الفضل الطبرسي

 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت لبنان 2001م

 

14.علم الاجتماع العائلي – الدكتور عبدالرؤوف الضبع

 دار الوفاء – القاهرة مصر 2002م

 

هناك تعليق واحد: